من خلق الله ؟
لقد نشط المعاندون للحقيقة الإلهية, (بعد أن أعجزتهم الأدلة القاطعة), في اختراع أسئلة من شأنها إرباك العقول, التي لم يتماسك إيمانها بعد.
وكثيراً ما كنتُ أسمع هذا السؤال يُطرح, خاصة بين الطلاب في الجامعة, وشريحة الشباب عموماً, حيث قد نجد من يتباهى به, ظناً منه أن الإجابة صعبة أو متعسرة.
فما حقيقة هذا الإشكال؟ وما هو أوضح جواب عليه؟
أولاً: في توضيح الإشكال:
تقدّم الكلام أن أحد الدلائل على إثبات الصانع, هو برهان النُظم, وإحدى مقدماته قانون ((العلّة والمعلول)), أي أن لكل شيء علّة, وعليه كان لكل شيء علّة وخالق, فما هي علّة وجود الله؟ أو من هو خالق الله؟
ثانياً: في الجواب على الإشكال:
حرصاً على وضوح هذا المطلب, أطلب منك -أيها القارىء الكريم- الانتباه إلى هذا الجواب الذي سأعرضه في مقامين:
المقام الأول: الذاتي لا يُعلّل
قانون العلّة والمعلول, في حقيقته, لا يقول: ((لكل موجود علّة, أو لكل شيء علّة)), بل يقول: ((لكل ظاهرة علّة, أو كل حادث يحتاج إلى علّة تُوجده بعد العدم)), لأن المقصود هو إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود, أو من حالة عدم التحقق إلى حالة التحقق, من حالة عدم الظهور إلى حالة الظهور.
فالظاهرة هي ما يحتاج إلى مظهر, أو إلى علّة, أو إلى مُوجد, مثلاً: ابنك الذي لم يكن, ثم ظهر إلى الوجود, يحتاج ظهوره إلى علّة.
وهذا القانون هو قانون عام, يصدق وينطبق على كل ما من شأنه الظهور, وعلى كل ما من شأنه أن يكون مسبوقاً بالعدم.
وأما الموجود فإنه يحتاج إلى علّة - فقط - إذا كان من قسم (الظواهر). أما موضوع كلامنا وهو الله (تعالى) فهو موجود, ولكنه ليس ظاهرة, بمعنى أنه كان معدوماً, أو مسبوقاً بالعدم, حتى نتحدث ونسأل, كي وُجد؟ ... ومن وأوجده؟.
فالله موجود أزلي وأبدي, فلا يحتاج إلى علّة, ولا ينطبق عليه قانون ((العلّة والمعلول)).
والسؤال المطروح ((من خلق الله؟)), إنما يكون صحيحاً لو أن الله (تعالى) كان في وقت ما فاقداً للوجود, ثم ظهر إلى الوجود, والحال أنه ليس كذلك, فهو موجود منذ الأزل, بل هو يعطي الوجود للكائنات.
وبعبارة أخرى, وجود الله (تعالى) ذاتي, فلا يُعرض عليه أو يأتيه الوجود من غيره, حتى يصح السؤال, وإذا كان وجوده ذاتياً صار خاضعاً للقاعدة العقلية القائلة: ((الذاتي لا يعلّل)).
وهنا نعرض بعض الأمثلة التقريبية (1) التي تبيّن معنى أن ((الذاتي لا يعلّل)):
المثال الأول:
الحاكم يكتسب القدرة من حاكم يعلوه رتبة, وهكذا, إلى أن ينتهي الأمر إلى حاكم أعلى, وهذا (الحاكم الأعلى) يكتسب قدرته من الشعب, أما الشعب فلا يكتسب قدرته من أحد, بل هي ذاتية, فتكون قدرة الحاكم ومن لحقه بالعَرَض, وقدرة الشعب بالذات, فلا نسأل: من أين أتت قدرة الشعب؟
المثال الثاني:
الأغذية الحلوة سبب حلاوتها السكر, والسكر حلوٌ بنفسه وبذاته. كذلك الأمر بالنسبة للأغذية المالحة فإن الملح هو مصدر ملوحتها, أما الملح فملوحته ذاتية.
المثال الثالث:
إذا كانت الغرفة مضيئة فإن النور هو سبب إضاءتها, وأما النور فهو مضيء بذاته, فلا نسأل عن سبب إضاءته.
(1) الهادي, جعفر: الله خالق الكون, ط2, بيروت, دار الأضواء, 1986, ص302.
المقام الثاني: السؤال خلاف الفرض
إننا عندما نقول (الله) فإننا نقصد الموجود الأزلي الأبدي, الدائم الوجود, الذي لم يكن له عدم من قبل.
وعليه فإن السؤال إذاً غير صحيح, لأنه يناقض نفسه, ويتناقض مع مقدماته, فأنا عندما أقول لك إن ((مايكل شومخر)) - مثلاً - هو بطل العالم في ((سباق السيارات)), أي أقوى مسابق في العالم, فهل يصح منك أن تقول لي بعد ذلك: من الذي يفوق ((شومخر)) قوةً في السباق؟ إن هذا السؤال خاطىء; لأنني أفرض أن فلاناً هو الأقوى في العالم, ولذا نحن نقول: الله (تعالى) هو الخالق, أي أنه غير مخلوق, فلا يصح أن نقول: من خلقه؟ لأنه خلاف الفرض. أو عندما أقول: إن فلاناً هو صاحب المرتبة الأولى بين الطلاب, في صف الفيزياء, من السنة الثالثة مثلاً, فهل تستطيع أن تعود فتسالني عمّن يفوقه, أو يتقدّم عليه في صفه؟ إن هذا السؤال هنا يصبح خطأً.
ملاحظة مهمة:
هذا السؤال المطروح سابقاً والذي أجبنا عنه إجابة وافية, كما يُطرح على المؤمنين الإلهيّين, يُطرح على الماديّين.
فمن وجهة نظر الإلهيّين, يُطرح على الماديّين.
فمن وجهة نظر الإلهيّين, إنّ جميع الموجودات تعود إلى الله, الذي وهبها الوجود. ومن وجهة نظر الماديّين فإن جميع مظاهر الوجود تعود إلى المادة, وهي منبع التجلّي.
فالسؤال المطروح على المادي: من خلق هذه المادة؟ أو ما هو مبدأ هذه المادة؟ وإلى أين ترجع؟
والعجيب أن بعض الماديّين يطرحون السؤال: من خلق الله؟ ويستدلون عليه بقانون العلية, دون أن يلتفتوا إلى أنهم معنيون بالإجابة عن هذا السؤال.
والعجيب أن الفيلسوف الإنكليزي وعالم الرياضيات المعروف Bertrand Russel(*) يقول في كتابه (لماذا لستُ مسيحياً):
((عندما كنت شاباً كنت أناقش هذه الأسئلة بجدية في عقلي. لقد كنت - ولمدة طويلة - أوافق على الجدل القائم حول السبب الأول, إلى إن قرأت السيرة الذاتية لـ((جون ستيورات ميل)) (**) حيث وجدت هذه العبارة: (( لقد علّمني أبي أن السؤال من خلقني؟ لا يمكن الإجابة عليه, لأن يطرح مباشرة السؤال التالي: من خلق الله؟)) هذه العبارة البسيطة أظهرت لي كما لازلت أعتقد المغالطة التي يحتوي عليها برهان السبب الأول)) (1).
والسؤال: كيف غفل هذا الفيلسوف عن أنّ نقض هذا القانون - على فرض صحّته - مشترك بين الإلهيين والماديين; لأنه كما أن الله في مذهب عباد الله موجود قديم وبدون علّة, فإن مادة العالم في مذهب الماديين, موجود قديم وبدون علّة.
فإذا كان الحفاظ على قانون العلّة والمعلول يجعلنا نبتعد عن
(*) برتراند راسل, Bertrand Russel ( 1970 - 1872 ), فيلسوف وعالم رياضيات بريطاني.
(**) جون ستيوارت ملّ, John Stuart Mill ( 1873 - 1806).
(1) Bertrand, Russel, Why I am not a Christian, New York, Simon
Schuster inc, p:6
التوجّه إلى الله, فلا بّد أن يُبعدنا - أيضاً - عن التوجّه إلى المادة, ونلتحق بجميع الشكاكين, وليس بجمع الملحدين والكافرين(1).
(1) سبحاني, جعفر: عقائدنا الفلسفية والقرآنية, ط1, بيروت دار الروضة, 1993, ص18.
لقد نشط المعاندون للحقيقة الإلهية, (بعد أن أعجزتهم الأدلة القاطعة), في اختراع أسئلة من شأنها إرباك العقول, التي لم يتماسك إيمانها بعد.
وكثيراً ما كنتُ أسمع هذا السؤال يُطرح, خاصة بين الطلاب في الجامعة, وشريحة الشباب عموماً, حيث قد نجد من يتباهى به, ظناً منه أن الإجابة صعبة أو متعسرة.
فما حقيقة هذا الإشكال؟ وما هو أوضح جواب عليه؟
أولاً: في توضيح الإشكال:
تقدّم الكلام أن أحد الدلائل على إثبات الصانع, هو برهان النُظم, وإحدى مقدماته قانون ((العلّة والمعلول)), أي أن لكل شيء علّة, وعليه كان لكل شيء علّة وخالق, فما هي علّة وجود الله؟ أو من هو خالق الله؟
ثانياً: في الجواب على الإشكال:
حرصاً على وضوح هذا المطلب, أطلب منك -أيها القارىء الكريم- الانتباه إلى هذا الجواب الذي سأعرضه في مقامين:
المقام الأول: الذاتي لا يُعلّل
قانون العلّة والمعلول, في حقيقته, لا يقول: ((لكل موجود علّة, أو لكل شيء علّة)), بل يقول: ((لكل ظاهرة علّة, أو كل حادث يحتاج إلى علّة تُوجده بعد العدم)), لأن المقصود هو إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود, أو من حالة عدم التحقق إلى حالة التحقق, من حالة عدم الظهور إلى حالة الظهور.
فالظاهرة هي ما يحتاج إلى مظهر, أو إلى علّة, أو إلى مُوجد, مثلاً: ابنك الذي لم يكن, ثم ظهر إلى الوجود, يحتاج ظهوره إلى علّة.
وهذا القانون هو قانون عام, يصدق وينطبق على كل ما من شأنه الظهور, وعلى كل ما من شأنه أن يكون مسبوقاً بالعدم.
وأما الموجود فإنه يحتاج إلى علّة - فقط - إذا كان من قسم (الظواهر). أما موضوع كلامنا وهو الله (تعالى) فهو موجود, ولكنه ليس ظاهرة, بمعنى أنه كان معدوماً, أو مسبوقاً بالعدم, حتى نتحدث ونسأل, كي وُجد؟ ... ومن وأوجده؟.
فالله موجود أزلي وأبدي, فلا يحتاج إلى علّة, ولا ينطبق عليه قانون ((العلّة والمعلول)).
والسؤال المطروح ((من خلق الله؟)), إنما يكون صحيحاً لو أن الله (تعالى) كان في وقت ما فاقداً للوجود, ثم ظهر إلى الوجود, والحال أنه ليس كذلك, فهو موجود منذ الأزل, بل هو يعطي الوجود للكائنات.
وبعبارة أخرى, وجود الله (تعالى) ذاتي, فلا يُعرض عليه أو يأتيه الوجود من غيره, حتى يصح السؤال, وإذا كان وجوده ذاتياً صار خاضعاً للقاعدة العقلية القائلة: ((الذاتي لا يعلّل)).
وهنا نعرض بعض الأمثلة التقريبية (1) التي تبيّن معنى أن ((الذاتي لا يعلّل)):
المثال الأول:
الحاكم يكتسب القدرة من حاكم يعلوه رتبة, وهكذا, إلى أن ينتهي الأمر إلى حاكم أعلى, وهذا (الحاكم الأعلى) يكتسب قدرته من الشعب, أما الشعب فلا يكتسب قدرته من أحد, بل هي ذاتية, فتكون قدرة الحاكم ومن لحقه بالعَرَض, وقدرة الشعب بالذات, فلا نسأل: من أين أتت قدرة الشعب؟
المثال الثاني:
الأغذية الحلوة سبب حلاوتها السكر, والسكر حلوٌ بنفسه وبذاته. كذلك الأمر بالنسبة للأغذية المالحة فإن الملح هو مصدر ملوحتها, أما الملح فملوحته ذاتية.
المثال الثالث:
إذا كانت الغرفة مضيئة فإن النور هو سبب إضاءتها, وأما النور فهو مضيء بذاته, فلا نسأل عن سبب إضاءته.
(1) الهادي, جعفر: الله خالق الكون, ط2, بيروت, دار الأضواء, 1986, ص302.
المقام الثاني: السؤال خلاف الفرض
إننا عندما نقول (الله) فإننا نقصد الموجود الأزلي الأبدي, الدائم الوجود, الذي لم يكن له عدم من قبل.
وعليه فإن السؤال إذاً غير صحيح, لأنه يناقض نفسه, ويتناقض مع مقدماته, فأنا عندما أقول لك إن ((مايكل شومخر)) - مثلاً - هو بطل العالم في ((سباق السيارات)), أي أقوى مسابق في العالم, فهل يصح منك أن تقول لي بعد ذلك: من الذي يفوق ((شومخر)) قوةً في السباق؟ إن هذا السؤال خاطىء; لأنني أفرض أن فلاناً هو الأقوى في العالم, ولذا نحن نقول: الله (تعالى) هو الخالق, أي أنه غير مخلوق, فلا يصح أن نقول: من خلقه؟ لأنه خلاف الفرض. أو عندما أقول: إن فلاناً هو صاحب المرتبة الأولى بين الطلاب, في صف الفيزياء, من السنة الثالثة مثلاً, فهل تستطيع أن تعود فتسالني عمّن يفوقه, أو يتقدّم عليه في صفه؟ إن هذا السؤال هنا يصبح خطأً.
ملاحظة مهمة:
هذا السؤال المطروح سابقاً والذي أجبنا عنه إجابة وافية, كما يُطرح على المؤمنين الإلهيّين, يُطرح على الماديّين.
فمن وجهة نظر الإلهيّين, يُطرح على الماديّين.
فمن وجهة نظر الإلهيّين, إنّ جميع الموجودات تعود إلى الله, الذي وهبها الوجود. ومن وجهة نظر الماديّين فإن جميع مظاهر الوجود تعود إلى المادة, وهي منبع التجلّي.
فالسؤال المطروح على المادي: من خلق هذه المادة؟ أو ما هو مبدأ هذه المادة؟ وإلى أين ترجع؟
والعجيب أن بعض الماديّين يطرحون السؤال: من خلق الله؟ ويستدلون عليه بقانون العلية, دون أن يلتفتوا إلى أنهم معنيون بالإجابة عن هذا السؤال.
والعجيب أن الفيلسوف الإنكليزي وعالم الرياضيات المعروف Bertrand Russel(*) يقول في كتابه (لماذا لستُ مسيحياً):
((عندما كنت شاباً كنت أناقش هذه الأسئلة بجدية في عقلي. لقد كنت - ولمدة طويلة - أوافق على الجدل القائم حول السبب الأول, إلى إن قرأت السيرة الذاتية لـ((جون ستيورات ميل)) (**) حيث وجدت هذه العبارة: (( لقد علّمني أبي أن السؤال من خلقني؟ لا يمكن الإجابة عليه, لأن يطرح مباشرة السؤال التالي: من خلق الله؟)) هذه العبارة البسيطة أظهرت لي كما لازلت أعتقد المغالطة التي يحتوي عليها برهان السبب الأول)) (1).
والسؤال: كيف غفل هذا الفيلسوف عن أنّ نقض هذا القانون - على فرض صحّته - مشترك بين الإلهيين والماديين; لأنه كما أن الله في مذهب عباد الله موجود قديم وبدون علّة, فإن مادة العالم في مذهب الماديين, موجود قديم وبدون علّة.
فإذا كان الحفاظ على قانون العلّة والمعلول يجعلنا نبتعد عن
(*) برتراند راسل, Bertrand Russel ( 1970 - 1872 ), فيلسوف وعالم رياضيات بريطاني.
(**) جون ستيوارت ملّ, John Stuart Mill ( 1873 - 1806).
(1) Bertrand, Russel, Why I am not a Christian, New York, Simon
Schuster inc, p:6
التوجّه إلى الله, فلا بّد أن يُبعدنا - أيضاً - عن التوجّه إلى المادة, ونلتحق بجميع الشكاكين, وليس بجمع الملحدين والكافرين(1).
(1) سبحاني, جعفر: عقائدنا الفلسفية والقرآنية, ط1, بيروت دار الروضة, 1993, ص18.